|
من الثابت علمياً ان الانسان يولد صفحة بيضاء، خالية من أي اتجاه أو تشكل للذات، وإنما يحمل الاستعداد لتلقي العلوم والمعارف وتكوين الشخصية والتشكل وفق خط سلوكي معين.لذا نجد القرآن الكريم يخاطب الانسان بهذه الحقيقة،ويذكِّره بنعمة العلم والتعليم والهداية.
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون). (النحل/78)
ويترجم الامام علي (عليه السلام) هذه الحقيقة العلمية فيقول:
(وإنّما قلب الحدث كالارض الخالية، ماألقي فيها من شيء قبلته)(3).
شرح العلامة الحلي مراحل تكوُّن المعرفة لدى الطفل فقال: (إعلم أن الله خلق النفس الانسانية في بداية فطرتها خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة، وذلك مشاهد في حال الاطفال. ثم إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الادراك، وهي القوى الحساسة، فيحس الطفل في أوَّل ولادته، يحس لمس مايدركه من الملموسات، ويميز بواسطة الادراك البصري على سبيل التدرج بين أبويه وغيرهما.
وكذا يتدرج في الطعوم وباقي المحسوسات الى ادراك مايتعلق بتلك الالات، ثم يزداد فطنة فيدرك بواسطة إحساسه بالامور الجزئية الامور الكلية من المشاركة والمباينة، ويعقل الامور الكلية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية، ثم إذا استكمل الاستدلال، وتفطن بمواضع الجدال، وأدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكسبية، فظهر من هذا أن العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية، والعلوم الضرورية الكلية فرع على المحسوسات الجزئية)(4).
من هذا الشرح لمدلول الاية تتحدد نظرية المعرفة في الاسلام وكيفية تكونها لدى الانسان منذ نشأته الاولى، مؤصَّلة على قاعدة قرآنية.
وعلى هذا الفهم، وتلك الاسس العلمية لتلقي المعرفة وتكُّون الشخصية تبتني النظرية التربوية في الاسلام، ويبدأ تكليف الابوين في اعداد الطفل وتربيته وتعليمه.
والتربية في مراحلها الاولى هي مران وتدريب سلوكي عملي يتلقاه الطفل عن طريق الحس من أبويه فيكتسب منهما السلوك والاخلاق والعادات وطريقة التعامل.
لذا فان السلوك العائلي، ومحيط الاسرة الثقافي يؤثران تأثيراً بالغاً في تكوين الشخصية واتجاهها المستقبلي.
أما التعليم فهو تلقي العلوم والمعارف لتكوين عقلية الانسان وطريقة تفكيره وثقافته، وتشكيل صبغة الهوية الفكرية لشخصيته; لذا جاء في الحديث الشريف: (مامن مولود يولد إلا على هذه الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه)(5).
ولاهمية التربية في بناء الشخصية والسلامة النفسية من العقد والانحرافات وأثرها في سعادة الانسان وشقائه في مستقبل حياته وآخرته، ودورها الفاعل في حضارة المجتمع وتقدمه العلمي والتنموي اكّد الاسلام الاهتمام بالتربية وتوجيه الطفل والعناية الفائقة به سيّما في سنيّه الاولى. فالتربية تؤثر على أمن المجتمع، وصحته ونظافة بيئته، وإنتاجه الاقتصادي، واستقراره السياسي وتقدمه العلمي والحضاري.
فالطفل الذي ينشأ كسولاً مهملاً، لايمكن أن يكون إنساناً منتجاً يعرف كيف يوظف وقته وطاقته، ويطوِّر انتاجه وقدراته، أو يواصل تحصيله العلمي والخبروي.
والطفل الذي ينشأ مشرداً متمرداً نتيجة لسوء تعامل الابوين أو المدرسة أو السلطة من الصعب أن يكون إنساناً ملتزماً بالقانون، يحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي لبلده وأمته.
والطفل الذي يعيش في بيئة شاذة، أو يُربّى تربية منحطة تترك تلك التربية تأثيرها في سلوكه فتجني عليه، وتصنع منه انساناً مجرماً معذَّباً في حياته وشقياً في اخرته.
فقد أثبتت التجارب والاحصائيات العلمية التي أجراها الباحثون أثر التربية في تكوين الفرد والمجتمع فجاءت متطابقة مع تشخيص الرسالة الاسلامية ومقرراتها العلمية في التربية نذكر منها:
تقول معظم الدراسات التي اجريت في العالمين العربي والغربي بان سني الطفولة الاولى هي سني تكوين الشخصية الانسانية وتنمية المواهب الفردية. فالولد يكتسب من احتكاكه بمحيطه ردات فعل على المثيرات الخارجية بحيث تكتمل نصف ردات فعله الثابتة في حياته في السنوات الاولى من حياته. وبديهي ان يكون للقيم السلوكية الايجابية والسلبية السائدة في محيطه العائلي دور فعال ومؤثر في تكوّن طريقة تعامله مع الغير. وتثبت الابحاث التربوية ايضاً أن تكوّن الصورة الذاتية لدى الطفل منذ حداثة سنه تؤثر في نظرته الى نفسه طيلة سني حياته. فاذا تكونت لديه صورة سلبية عن مقدرته ومكانته في عائلته بأن شعر نفسه مهملاً، دون دور معين في محيطه العائلي، لايثير اهتمام أحد كأن وجوده أو عدمه سيّان نمت لديه صورة قاتمة عن مكانته في المجتمع، ماتلبث ان تترجم بتصرفات تؤدي الى اثبات الوجود عبر سياق تعويضي يتصف بالعنف أو بالمشاكسة أو بالانحراف. وبالعكس اذا وجد الرعاية والمحبة والعاطفة والتقدير والتشجيع بين افراد اسرته زهت صورته عن نفسه ونمت مقدراته ومواهبه واصبح يشعر باشراقة مضيئة تشع من شخصيته فتؤهله للقيام بدور فعال في حياته العائلية ومن ثم المدرسية والمهنية والاجتماعية.
اثبت التقرير الذي وضعه كولمان نتيجة لابحاثه التربوية المؤيدة بالابحاث التي قام بها المجلس الاستشاري المركزي للتربية في انكلترا ان خمسين بالمئة من ذكاء الاولاد البالغين السابع عشرة من عمرهم يتكون بين فترة تكون الجنين وسن الرابعة. وان خمسين بالمئة من المكاسب العلمية لدى البالغين ثمانية عشر عاماً تتكون ابتداءً من سن التاسعة. وان 33% من استعدادات الولد الذهنية والتصرفية والمقدامية والعاطفية يمكن التنبؤ بها في سن الثانية، وتصبح درجة التنبؤ 50% في سن الخامسة. وتضيف دراسة اخرى ان نوعية اللغة التي يخاطب بها الاهل اولادهم تؤثر الى حد كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب وللقيم السلوكية لديهم ولمفاهيمهم ودورهم واخلاقيتهم(6).
ويعتبر الاسلام أن من أهم مكاسب الانسان في الدنيا أن يكون له ولد صالح، سوِّي الشخصية والسلوك.
فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: (من سعادة الرجل الولد الصالح)(7).
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له)(8).
up
up
up
up
up
موضوع شيق
up
up