|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة [ ] الأولى:
الحمد لله الذي دعا عباده إلى التراحم وبين لهم فضله وجعل حب نفع المؤمن من تمام كمال الإيمان [ ] ونهى عن كل ما يؤدي إلى الشر والخذلان. أحمده وهو المحمود بكل لسان وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ندب إلى البر، وبين على لسان رسله طريق الخير والشر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}(174 النساء) وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله اتصف بمكارم الأخلاق [ ] فكان المثل الأعلى في فعل الخير والحلم والرحمة والإرفاق. صلى الله و سلم عليه و على آله وأصحابه الذين كملت فضائلهم فكانوا للمكارم من السباق.
أما بعد فيا أيها المؤمنون الكرام موضوع خطبتنا: الخير الذي ينبغي السعي الحقيقي وراء الوصول إليه والرحمة المقصودة التي ينبغي أن تتحقق بين المسلمين.والعنوان كما ترون يفرض أسئلة هي محور خطبتنا فما هو الخير الذي ينبغي أن نعمل على تحقيقه؟ وما هي مظاهر الرحمة المطلوبة بين أفراد المجتمع المسلم؟ وما هو المقياس الذي يعرف به الخير والرحمة؟ هذه الأسئلة طرحناها لأن الواقع فرض على بعضنا نمطا معينا من السلوك والدين دعانا إلى نمط مغاير. الواقع جعل الكثير منا يؤمن بشعارات غريبة مثل: افعل خيرا تحصد شرا – نفسي نفسي لا يرحم من مات- يا مؤمن عليك بنفسك… أما الدين فانه يرى أن أسمى الغايات وأنبل المقاصد هو أن يحرص الإنسان على الخير ويسارعَ إليه وأن الخير هو أحد عناصر الفلاح والفوز يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(77 الحج) وأخبر الله أنّه أوحى إلى أنبيائه ورسله فعل الخيرات فقال عز من قائل{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(73 الأنبياء). ورسول الله يقول: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"(أبو داود). هذا النوع من التضارب بين الواقع والدين بين النظرية والتطبيق يزداد عمقا عندما نحول أبصارنا إلى معاملات الناس اليومية فكم من شخص يعاهد نفسه على أن لا يرحم إنسانا أبدا لأنه فعل خيرا فلقي شرا إنه سعى إلى أن يستجيب لسنة الرسول فكسا أجيرا استعمله وأطعمه بل أسكنه في بيته فما كان من العامل إلا أن تصور الطيبة ضعفا وفعل الخير ونشر الرحمة عوامل مساعدة على الخيانة والإضرار والسرقة والعبث بأملاك الغير وكم من طبيب تحركت فيه مشاعر الرحمة فقبل عن طيب خاطر أن يجري عملية جراحية لامرأة تدّعي ضعف الحال وقلّة المال، على أن تدفع ثمنها أقساطا بعد أن توسلت إليه و ذرفت الدموع أمامه وتعهدت على التسديد ولكن ما إن قضت وطرها وحصل الشفاء تنكرت للجميل وكم من شخص سارع في الخير فأوقف سيارته ليركب رجلا ويبلغه مقصده فيشهر عليه سلاحه و يسلب منه أمواله ويهدده إن رفع ضده شكوى، فيلعن فاعلُ الخير الخيرَ وأصحابَه ويُلزم نفسه مستقبلا باللا مبالاة… هذه الصور المعتادة للتنكر للجميل تجعل بعض الناس يرددون: "الدنيا [ ] قل خيرها" فما العمل؟
لقد حدد الإسلام السبيل وأوضح مسالك الرحمة وحض على أخلاق الرجولة معها حتى يكون الخير والرحمة منتشِرَيْن في أمة محمد إلى يوم القيامة [ ] روي أن زيدا سأل النبي: "دلني يا رسول الله على علامة أعرف بها رضا الله عني" فسأله رسول الله: "كيف أنت يا زيد الخير؟" قال: "أحب الخير وأحب من يفعله وأكره الشر وأكره من يفعله" فقال "هو ذلك يا زيد" (أحمد). ففعل الخير لا بد منه وإيصاله وفسر العلماء [ ] الخير بنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق. وفي آية كريمة حدد الله المنتفعين بالخير فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(215 البقرة).
وبين الرسول أن الرحمة موصولة ببني آدم موجودة بين البشر فقال: "جعل الله الرحمة مائة جزء فامسك عنده تسعة و تسعين جزءا و أنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"(الشيخان) وقال :"لا تنزع الرحمة إلا من شقي" (أبو داود) ولكن على المؤمن أن يميز بين الضعف والطيبة. والتجربة تعلمه وتربيه وتوجهه إلى المسلك الأفضل فلا يقطع الرحمة ولا يتراجع عن فعل الخير بل يسارع إليه ويهيئ أسباب السلامة ويحرص على اليقظة.