قال تعالى: "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا "
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أصلا ، ولمن قام بوراثته بعده تبعا : اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ، ليتصوروها حق التصور ، ويعرفوا ظاهرها وباطنها ، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية ، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار . وأن مثل هذه الحياة الدنيا ، كمثل المطر ، ينزل على الأرض ، فيختلط نباتها ، أو تنبت من كل زوج بهيج . فبينا زهرتها ، وزخرفها تسر الناظرين ، وتفرح المتفرجين ، وتأخذ بعيون الغافلين ، إذ أصبحت هشيما ، تذروه الرياح ، فذهب ذلك النبات الناضر ، والزهر الزاهر ، والمنظر البهي ، فأصبحت الأرض غبراء ترابا ، قد انحرف عنها النظر ، وصدف عنها البصر ، وأوحشت القلب . كذلك هذه الدنيا ، بينما صاحبها ، قد أعجب بشبابه ، وفاق فيها على أقرانه وأترابه ، وحصل درهمها ودينارها ، واقتطف من لذته أزهارها ، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته ، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه ، إذ أصابه الموت أو التلف لماله . فذهب عنه سروره ، وزالت لذته ، وحبوره ، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته ، وماله وانفرد بصالح ، أو سيىء أعماله . هنالك يعض الظالم على يديه ، حين يعلم حقيقة ما هو عليه ، ويتمنى العود إلى الدنيا ، لا ليستكمل الشهوات ، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات ، بالتوبة والأعمال الصالحات . فالعاقل الجازم الموفق ، يعرض على نفسه هذه الحالة ، ويقول لنفسه : « قدري أنك قد مت ، ولا بد أن تموتي ، فأي الحالتين تختارين ؟ الاغترار بزخرف هذه الدار ، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل ، لدار أكلها دائم وظلها ظليل ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ؟ » ، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه ، وربحه من خسرانه . ولهذا أخبر تعالى ، أن المال والبنين ، زينة الحياة الدنيا ، أي : ليس وراء ذلك شيء ، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره ، الباقيات الصالحات . وهذا يشمل جميع الطاعات ، الواجبة ، والمستحبة ، من حقوق الله ، وحقوق عباده ، من صلاة ، وزكاة ، وصدقة ، وحج ، وعمرة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وقراءة ، وطلب علم نافع ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وصلة رحم ، وبر الوالدين ، وقيام بحق الزوجات ، والمماليك ، والبهائم ، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق ، كل هذا من الباقيات الصالحات ، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا ، فثوابها يبقى ، ويتضاعف على الآباد ، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها ، عند الحاجة ، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون ، ويستبق إليها العاملون ، ويجد في تحصيلها المجتهدون . وتأمل ، كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ، ذكر أن الذي فيها نوعان : نوع من زينتها ، يتمتع به قليلا ، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه ، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون . ونوع يبقى لصاحبه على الدوام ، وهي : الباقيات الصالحات.
تفسير السعدي.
وعلى الله قصد السبيل
السلفية لك كل الشكر