|
فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس : نفس مطمئنه , و نفس لوامه , نفس أماره , و أن منهم من تغلب عليه هذه , و منهم من تغلب عليه الأخرى , و يحتجون على ذلك بقوله تعالى : " يآيتها النفس المطمئنه " ( الفجر : 27 ), و بقوله تعالى : " لا أقسم بيوم القيامه و لا أقسم بالنفس اللوامه " ( القيامه : 1,2 ) و بقوله تعالى : " ان النفس لأمارة بالسوء " ( يوسف 53 )
و التحقيق أنها نفس واحده و لكن لها صفات , فتسمى باعتبار كل صفه باسم , فتسمى مطمئنه باعتبار طمأنينتها الى ربها بعبوديته و محبته و الانابه اليه و التوكل عليه و الرضا به و السكون اليه , فان سمة محبته و خوفه و رجائه منها قطع النظر عن محبة غيره و و خوفه و رجائه , فيستغني بمحبته عن حب ما سواه , فالطمأنينه الى الله سبحانه حقيقه ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه , و ترد قلبه الشارد اليه حتى كأنه جالس بين يديه , و يسمع و يبصر به و يتحرك به و يبطش به ,فتسري تلك الطمأنينه في نفسه و قلبه و مفاصله و قواه الظاهره و الباطنه , فتنجذب روحه الى الله و يلين جلده و قلبه و مفاصله الى خدمته و التقرب اليه , و لا يمكن حصول الطمأنينه الا بالله و بذكره , و هو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى : " الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ( الرعد : 28 ) ,فان طمأنينة القلب : سكونه و استقراره بزوال القلق و الانزعاج و الاضطراب عنه , و هذا لا يتأتى بشيء سوى الله تعالى و ذكره البته , و أما ما عداه فالطمأنينه اليه وبه غرور , و الثقه به عجز قضى الله سبحانه و تعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن الى شيء سواه أتاه القلق و الانزعاج كائنا من كان , بل لو اطمأن العبد الى علمه و حاله و عمله سلبه و زايله , و قد جعل سبحانه نفوس المطمئنين الى سواه أغراضا لسهام البلاء ليعلم عباده و أولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع , و المطمئن الى سواه عن مصالحه و مقاصده مصدود و ممنوع .
و حقيقة الطمأنينه التي تصير بها النفس المطمئنه أن تطمئن في باب معرفة اسمائه و صفاته , و نعوت كماله الى خبره الذي أخبر به عن نفسه , و أخبرت عنه رسله , فتتلقاه بالقبول و التسليم و الاذعان و انشراح الصدر له و فرح القلب به فهذه الطمئنينه أصل أصول الايمان التي قام عليه بناؤه ثم يطمئن الى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ و ما بعدها من أحوال القيامه و هذه حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه و تعالى أهل الايمان حيث قال : " و بالآخرة هم يوقنون " ( البقره : 4 ) فلا يحصل الايمان بالآخره حتى يطمئن القلب الى ما أخبر الله سبحانه به عنها طمأنينته الى الأمور التي لا يشك فيها و لا يرتاب . فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثه : أصبحت مؤمنا حقا , فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ان لكل شيء حقيقه فما حقيقة ايمانك ؟ " قال : عزفت نفسي عن الدنيا و أهلها و كأني أنظر الى عرش ربي بارزا و الى أهل الجنه يتزاورون فيها و أهل النار يعذبون فيها , فقال : " عبد نور الله قلبه "
المصدر : كتاب "الروح " للامام " ابن القيم الجوزيه "