مَواطِن الإجابة
التّعريف :
1 – المواطن جمع الموطن ، والموطن : اسم المكان من وَطَنَ يقال : وَطَنَ فلانٌ بالمكان ، وأوطن : إذا قام به ، وأوطنه أيضاً : اتّخذه وطناً .
والوَطَن : المنزل تقيم به ، وهو موطنُ الإنسان ومحله . ويقال : أوطَنَ فلانٌ أرض كذا ، أي اتّخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها .
والموطن أيضاً : الموقف والمشهد من مشاهد الحرب . قال اللّه تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } ، وإذا اتّخذ الرّجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به يصلّي فيه ، قيل : أوطَنَ فيه ، وفي الحديث : « نهى النّبي صلى الله عليه وسلم صلّى اللّه عليه وسلّم عن نُقرة الغراب , وافتراش السّبع وأن يوطِنَ الرّجل المكان في المسجد كما يوطِنُ البعير » ، أي كالبعير لا يأوي من العطن إلّا إلى مبركٍ قد أوطنه واتّخذه مُناخاً . والإجابة المقصودة هنا : إجابة اللّه تبارك وتعالى دعاءَ الدّاعين .
ومواطن الإجابة على هذا : هي المظانُّ الّتي يغلب على الظّنّ أنَّ من دعا فيها استُجيب له .
حكم تحرّي الدعاء في مواطن الإجابة :
2 – تحرِّي الدعاء في مواطن الإجابة مستحب ، ويفهم الاستحباب من مختلف الصّيغ الواردة في الكتاب والسنَّة ، كالثّناء على فاعله في مثل قول اللّه تعالى : { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، وكالتّخصيص في نحو قوله تعالى في الحديث القدسيّ : « من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » ، وربّما صرّحت بعض الأحاديث بالأمر المفيد للاستحباب ، كما في حديث عمرو بن عبسة أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : « أقرب ما يكون الرّب من العبد في جوف اللّيل الآخر ، فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر اللّه في تلك السّاعة فكن » .
قال الغزالي : من آداب الدعاء أن يترصَّد لدعائه الأوقات الشّريفة ، كيوم عرفة من السّنة ، ويوم الجمعة من كلّ أسبوع ، ووقت السّحر من ساعات اللّيل .
وقال النّووي : قال أصحابنا – يعني الشّافعيّة – يستحب أن يكثر في ليلة القدر من الدّعوات المستحبَّة ، وفي المواطن الشّريفة .
وقال البهوتي : يتحرَّى الدّاعي أوقات الإجابة كالثلث الأخير من اللّيل ، وعند الأذان والإقامة.
3 – وليس معنى كون الزّمان المعيَّن أو المكان المعيَّن موطناً للإجابة أنّ حصول المطلوب بالدعاء متعيِّن بكلّ حال ، بل المراد أنّه أرجى من غيره .
قال ابن حجر في شرح حديث : « ينزل ربنا . . . » : لا يعترض على ذلك بتخلُّفه عن بعض الدّاعين ؛ لأنّ سبب التّخلُّف وقوع الخلل في شرطٍ من شروط الدعاء ، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس ، أو لاستعجال الدّاعي ، أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم ، أو تحصل الإجابة به ويتأخّر وجود المطلوب لمصلحة العبد ، أو لأمر يريده اللّه تعالى ، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلّا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث : إمّا أن تعجّل له دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة ، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها ، قالوا : إذاً نكثر ؟ قال : اللّه أكثر » .
واللّه تعالى وعد الدّاعي بأن يستجيب له ، وعداً مطلقاً غير مقيَّد بزمان أو مكان أو حال ، قال تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .
فإجابته للدعاء في كلّ وقتٍ توجّه إليه فيه العبد بالدعاء ، ولذا كان تخصيص موطن معيَّن بالإجابة دالاً على تأكدها فيه ، وليس المراد الحصر ونفي الإجابة عمّا عداه .
أنواع مواطن الإجابة :
4 – مواطن الإجابة ثلاثة أنواع :
أ – أوقات شريفة اختصَّها اللّه تعالى بأن جعلها مواسم لهذه الأمّة تحصّل بها رضوان اللّه تعالى بذكره ودعائه ، كما قال تعالى في مناسك الحجّ : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } .
ب – أماكن شريفة خصَّها اللّه تعالى بذلك ، وهي مواطن محدودة يكون فيها الدّاعي متلبّساً بعبادة أخرى .
ج – أحوال معيّنة يرجى فيها قبول الدعاء .
منها الدعاء عند زحف الصفوف في سبيل اللّه تعالى ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصّلوات المكتوبة .
والدعاء بعرفة مثال لما اجتمع فيه شرف الزّمان وشرف المكان وشرف الحال .
قال الغزالي : وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الأحوال ، إذ وقت السّحر وقت صفاء القلب وإخلاصه ، وفراغه من المشوّشات ، ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم وتعاون القلوب على استدرار رحمة اللّه عزّ وجلّ . قال : فهذا أحد أسباب شرف الأوقات ، سوى ما فيها من أسرار لا يطّلع البشر عليها .
وفي كل من هذه المواطن تفصيل بيانه فيما يلي :
أوّلاً – المواطن الزّمانيّة :
أ – ثلث اللّيل الآخر :
5 – ثلث اللّيل الآخر من مواطن الإجابة ، ودليل ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السّماء الدنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » . وفي رواية : « حتّى ينفجر الفجر » .
ونقل ابن حجر عن الزهريّ أنّه قال : ولذلك كانوا يفضّلون صلاة آخر اللّيل على أوّله . وذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا الوقت يبدأ من منتصف اللّيل إلى أن يبقى من اللّيل سدسه ، ثمّ يبدأ وقت السّحر ، وهو موطن آخر ، لما روى عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال : « قلت : يا رسول اللّه أي اللّيل أسمع ؟ قال : جوف اللّيل الآخر » .
على أنّه قد ورد من حديث جابر رضي الله عنه قال : سمعنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ في اللّيلة لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلّا أعطاه إيّاه ، وذلك كلّ ليلة » ، وهو يعني أنّ اللّيل كلّه مظنَّة إجابة .
ب – وقت السَّحر :
6 – السّحر هو آخر اللّيل قبل أن يطلع الفجر .
وقيل : هو من ثلث اللّيل الآخر إلى طلوع الفجر .
ويرى الغزالي أنّه السدس الأخير من اللّيل .
قال القرطبي : هو وقت ترجى فيه إجابة الدعاء ، ونقل عن الحسن في قوله تعالى : { كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، قال : مدوا الصّلاة من أوّل اللّيل إلى السّحر ، ثمّ استغفروا في السّحر .
ج – بعد الزّوال :
7 – قال النّووي : يستحب الإكثار من الأذكار وغيرها من العبادات عقب الزّوال لما رُوِّينا عن عبد اللّه بن السّائب رضي الله عنه « أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يصلّي أربعاً بعد أن تزول الشّمس قبل الظهر ، وقال : إنّها ساعة تفتح فيها أبواب السّماء ، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح » .
د – يوم الجمعة وليلتها وساعة الجمعة :
8 – ورد الحديث بأنّ « يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشّمس » ، وورد حديثٌ في قبول الدعاء يوم الجمعة من غير نظر إلى ساعة الجمعة .
أمّا ساعة الجمعة ، فقال الشّوكاني : تواترت النصوص بأنّ في يوم الجمعة ساعةً لا يسأل العبد فيها ربّه شيئاً إلّا أعطاه إيّاه .
وقد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم من طرقٍ عن عدد من الصّحابة رضي الله عنهم ذكر ساعة الإجابة يوم الجمعة ، منها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه : رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر يوم الجمعة فقال : « فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّي يسأل اللّه تعالى شيئاً إلّا أعطاه إيّاه . وأشار بيده يقلِّلها » .
وعن أبي لبابة البدريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ يوم الجمعة سيِّد الأيّام وأعظمها عند اللّه . . . فيه خمس خلال فذكر منهنّ : وفيه ساعة لا يسأل اللّه فيها العبد شيئاً إلّا أعطاه ما لم يسأل حراماً » .
واختلف الفقهاء والمحدّثون في تعيين السّاعة المذكورة على أكثر من أربعين قولاً ، عدّدها الشّوكاني ، ونقل عن المحبّ الطّبريّ أنّه قال : أصح الأحاديث في تعيينها حديث أبي موسى رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم يقول في ساعة الجمعة : « هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصّلاة » ، واختار ذلك النّووي أيضاً.
وأمّا ليلة الجمعة ، فقد روي من حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال لعليّ رضي الله عنه : « إنّ في ليلة الجمعة ساعةً الدعاء فيها مستجاب » . نقله الشّوكاني في تحفة الذّاكرين .
هـ – أيّام رمضان ولياليه وليلة القدر :
9 – فضل رمضان معروف . واستدلَّ بعضهم لإجابة الدعاء فيه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا ترد دعوتهم الصّائم حتّى يفطر . . . » .
وأمّا ليلة القدر ، فقد ورد فيها عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « يا رسول اللّه أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي : اللَّهُمَّ إنّك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنّي » .
وإنّما كانت موطناً ؛ لإجابة الدعاء لأنّها ليلة مباركة تتنزّل فيها الملائكة ، جعلها اللّه تعالى لهذه الأمّة خيراً من ألف شهر ، وقال تعالى في شأنها : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ، قال الشّوكاني : وشرفها مستلزم لقبول دعاء الدّاعين فيها ، ولهذا أمرهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم بالتماسها ، وحرّض الصّحابة على ذلك .
وقد روي ما يدل على أنّ الدعاء فيها مجاب .
ونقل النّووي عن الشّافعيّ : أستحبُّ أن يكون اجتهاده في يومها كاجتهاده في ليلتها .
ثانياً – المواطن المكانيّة :
أ – الملتزم :
10 – الملتزم هو ما بين الركن الّذي فيه الحجر الأسود وباب الكعبة ، جاء عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه كان يلزم ما بين الركن والباب ، وكان يقول : ما بين الركن والباب ، يُدعى الملتزم ، لا يلزم ما بينهما أحدٌ يسأل اللّه شيئاً إلّا أعطاه إيّاه .
ونقل ابن جماعة عن ابن حبيب من المالكيّة أنّ الملتزم الموضع الّذي يُعتَنق ويُلِحُّ الدّاعي فيه بالدعاء ، قال : وقد سمعت مالكاً يستحب ذلك .
ب – عرفة :
11 – نبّه النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الدعاء في هذا الموطن بقوله : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنّبيُّون من قبلي : لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير » ، قال الشّوكاني : ثبت ما يدل على فضيلة هذا اليوم وشرفه حتّى كان « صومه يكفّر سنتين » ، وورد في فضله ما هو معروف ، وذلك يستلزم إجابة الدّاعين فيه .
ج – مشاعر الحجّ :
12 – الحج من أعظم الأعمال المقرّبة إلى اللّه تعالى ، نقل النّووي عن الحسن البصريّ أنّه قال : الدعاء هنالك يستجاب في خمسة عشر موضعاً : في الطّواف ، وعند الملتزم ، وتحت الميزاب ، وفي البيت ، وعند زمزم ، وعلى الصّفا والمروة ، وفي المسعى ، وخلف الإمام ، وفي عرفاتٍ ، وفي المزدلفة ، وفي منىً ، وعند الجمرات الثّلاث .
ثالثاً – الأحوال الّتي هي مظنّة الإجابة :
أ – الدعاء بين الأذان والإقامة وبعدها :
13 – الأذان من أعظم الشّعائر ، يُذكرُ فيه اللّه تعالى بالتّوحيد ، ويُشهد لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالرّسالة ، ويُنشر ذلك على رءوس النّاس بالصّوت الرّفيع إلى المدى البعيد ، ويُدعى عباد اللّه لإقامة ذكر اللّه ، وقد ورد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ثنتان لا تردّان أو قلّما تردّان : الدعاء عند النّداء ، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً » .
وورد من حديث أنسٍ رضي الله عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال : « الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة » .
وروي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص : « أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه إنّ المؤذّنين يفضلوننا ، قال : قل كما يقولون ، فإذا انتهيت فسلْ تُعْطَه » .
وورد أيضاً استجابة الدعاء بعد الإقامة ، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ساعتان تفتح فيهما أبواب السّماء : عند حضور الصّلاة ، وعند الصّفّ في سبيل اللّه » .
ب – الدعاء حال السجود :
14 – وإنّما كان السجود مظنّة الإجابة ؛ لأنّ فيه يتمثّل كمال العبوديّة والتّذلُّل والخضوع للّه تعالى ، يضع العبد أكرم ما فيه ، وهو جبهته ووجهه على الأرض وهي موطئُ الأقدام ، تعظيماً لربّه تبارك وتعالى ، ومع كمال التّذلل والتّعظيم يزداد القرب والمكانة من ربّ العزّة ، فيكون ذاك مظنَّة عود اللّه تعالى على عبده بالرّحمة والمغفرة والقبول ، ولهذا قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأمّا الركوع فعظّموا فيه الرّبّ عزّ وجلّ ، وأمّا السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم » ، وروى أبو هريرة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء » .
ولا فرق في ذلك بين سجود الفرض وسجود النّفل ، إلّا ما قاله القاضي من الحنابلة من أنّه لا يستحب الزّيادة على " سبحان ربّي الأعلى " في الفرض ، وفي التّطوع روايتان .
ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّه يندب الدعاء في السجود .
وزاد الشّافعيّة : بدينيّ أو دنيوي إن كان منفرداً أو إماماً لمحصورين ، أو لم يحصل بالدعاء طول ، وإلّا فلا .
ج – الدعاء بعد الصّلاة المفروضة :
15 – ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ ما بعد الصّلاة المفروضة موطن من مواطن إجابة الدعاء ؛ لما روي من حديث مسلم بن الحارث رضي الله عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه أسر إليه فقال : « إذا انصرفت من صلاة المغرب ، فقل : اللَّهُمَّ أجرني من النّار ، سبع مرَّاتٍ ، فإنّك إذا قلت ذلك ثمّ متَّ من ليلتك كتب لك جوار منها ، وإذا صلّيت الصبح فقل كذلك ، فإنّك إن متّ في يومك كتب لك جوار منها » .
وورد ما يدل على أنّ الدعاء في دبر الصّلوات المكتوبة على العموم ، فيها أسمع من غيرها، وهو ما روي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال : « قيل : يا رسول اللّه ، أيُّ الدعاء أسمعُ ؟ قال : جوف اللّيل الآخر ، ودبر الصّلوات المكتوبات » .
وقد نقل الغزالي عن مجاهد قال : إنَّ الصّلوات جعلت في خير الأوقات ، فعليكم بالدعاء خلف الصّلوات .
وروي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعاً : « من صلّى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ، ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة » .
د – حال الصّوم وحال الإفطار من الصّوم :
16 – أمر اللّه بصوم رمضان ، وذكر إكمال العدّة ثمّ قال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . وفي ذلك إشارة إلى المعنى المذكور . قال ابن كثير : في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخلّلةً بين أحكام الصّيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدّة ، بل وعند كلّ فطر؛ لما روى عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « للصّائم عند إفطاره دعوة مستجابة ، فكان عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما إذا أفطر دعا أهله وولده ثمّ دعا » ولما روي أيضاً : « إنّ للصّائم عند فطره دعوةً ما تُرَدّ » .
هـ – الدعاء بعد قراءة القرآن وبعد ختمه :
17 – دلّ على استجابة الدعاء بعد قراءة القرآن وبعد ختمه ما روي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنّه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « من قرأ القرآن فليسأل اللّه به ، فإنّه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به النّاس » , وحديث العرباض بن سارية : « من ختم القرآن فله دعوة مستجابة » .
و – دعوة المسافر :
18 – السّفر من مواطن الإجابة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « ثلاث دعواتٍ مستجابات : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده » . قال ابن علَّان : المراد المسافر إن لم يكن عاصياً بسفره كما هو ظاهر ، والولد إن كان ظالماً لأبيه عاقاً له .
ز – الدعاء عند القتال في سبيل اللّه :
19 – القتال في سبيل اللّه موضع إجابة ؛ لأنّ المجاهد في سبيل اللّه باذلٌ نفسه وماله في مرضاة ربّه ، وباذل جهده كلّه لرفع كلمة اللّه تعالى .
وقد روي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ساعتان تفتح فيهما أبواب السّماء : عند حضور الصّلاة ، وعند الصّفّ في سبيل اللّه » ، وفي رواية قال : « وعند البأس حين يُلحِم بعضهم بعضاً » .
وروي أنّ النّبيّ قال : « أطلبوا الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصّلاة ونزول الغيث ».
ج – حال اجتماع المسلمين في مجالس الذّكر :
20 – اجتماع المسلمين في مجالس الذّكر من مواطن الإجابة لحديث : « لا يقعد قوم يذكرون اللّه عزَّ وجلّ إلّا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرّحمة ، ونزلت عليهم السّكينة ، وذكرهم اللّه فيمن عنده » . ولحديث : « إنّ اللّه تعالى يقول لملائكته : قد غفرت لهم ، فيقولون : ربّ فيهم فلان ، عبد خطّاء ، إنّما مرّ فجلس معهم ، قال : فيقول : وله غفرت ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم » ، ولحديث أمّ عطيّة في خروج النّساء يوم العيد وفيه : « يشهدن الخير ودعوة المسلمين » . قال الشّوكاني : فهذا دليل على أنّ مجامع المسلمين – أي للذّكر – من مواطن الدعاء .
ط – دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب :
21 – ورد في استجابة دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب حديث أبي الدّرداء مرفوعاً : « دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملكٌ موكّل ، كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكّل به : آمين ، ولك بمثل » .
ي – دعوة الوالد لولده وعليه :
22 – ورد في حديث أبي هريرة : « ثلاث دعواتٍ مستجابات : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده » .
قال ابن علّان في دعوة الوالد على ولده : أي إن كان الولد ظالماً لأبيه عاقاً له .
ك – دعوة المظلوم ودعوة المضطرّ والمكروب :
23 – دعوة المظلوم ورد فيها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال : « دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه » .
وفي حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن ، فذكر ما أوصاه به ، وفيه : « واتّق دعوة المظلوم ، فإنّه ليس بينها وبين اللّه حجاب » ، وفي حديث أبي هريرة : « دعوة المظلوم يرفعها اللّه فوق الغمام ويفتح لها أبواب السّماء ، ويقول الرّب : وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين » .
وأمّا المضطر ، فقد قال اللّه تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } .
وأمّا المكروب الّذي لا يجد له فرجاً إلّا من عند اللّه ، فيدل لكونه مجاب الدّعوة قوله تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } .
وفي قوله { وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } بيان أنّ هذه الاستجابة عامّة لكلّ من كان في مثل حال يونس عليه السلام من الإخلاص وإفراد اللّه تعالى بالرّجاء والتّوجُه الصّادق .
ل – الدعاء عند نزول الغيث :
24 – قال النّووي : روى الشّافعي في " الأمّ " بإسناده حديثاً مرسلاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصّلاة ، ونزول الغيث» .
قال الشّافعي : وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند نزول الغيث وإقامة الصّلاة .
وممّا يؤكّد صحّة ذلك ما في بعض روايات حديث سهل بن سعد رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : « وتحت المطر » .
م – دعوة المريض :
25 – المرض من مواطن الإجابة لحديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك ، فإنّ دعاءه كدعاء الملائكة » .
قال ابن علّان : وذلك لأنّه مضطر ودعاؤه أسرع إجابةً من غيره ، ونقل عن المرقاة أنّه شبه الملائكة في التّنقّي من الذنوب ، أو في دوام الذّكر والتّضرُّع واللّجأ .
ن – حال أولياء اللّه :
26 – ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنّوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به ، ويده الّتي يبطش بها ، ورجله الّتي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه .. » .
قال ابن القيّم : ولمّا حصلت هذه الموافقة للعبد مع ربّه تعالى في محابّه حصلت موافقة الرّبّ لعبده في حوائجه ومطالبه ، أي : كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتّقرُّب إليّ بمحابّي ، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به ، ويستعيذني أن يناله مكروه .
س – حال المجتهد في الدعاء إذا وافق اسم اللّه الأعظم :
27 – يشهد لذلك حديث بريدة الأسلميّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو وهو يقول : اللَّهُمَّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت اللّه لا إله إلّا أنت ، الأحد الصّمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . . . فقال : لقد سأل اللّه باسمه الأعظم الّذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب » . وفي لفظٍ : « والّذي نفسي بيده لقد سأل اللّه باسمه الأعظم » .
ويشهد لذلك أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه « أنّه كان مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورجل يصلّي ، ثمّ دعا فقال : اللَّهُمَّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنَّان بديع السّماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيُّوم ، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : تدرون بما دعا ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم . قال : والّذي نفسي بيده، لقد دعا اللّه باسمه العظيم الّذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى » .
بارك الله فيج وجعل موضوعج القيم والمفيد في ميزان اعمالج الصالحه