|
الواجب علينا الآن أن نأخذ العبرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم في هجرته لا نستمع لمن يقول أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج من مكة خائفاً مذعوراً فقد كذبوا والله أو أن النبي دخل الغار ليختبئ فيه ومشي سراً خوفاً من الكافرين ودخل المدينة بعد ذلك وهو فرحٌ بأنه ظفر وفرّ من الكافرين
ليس الأمر كما قالوا ولا كما حكموا لأن الله قال في كتابه عن هجرة النبي قبل إرسال الرسالة إلي النبي وقبل بعثة هذا النبي {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} 40:التوبة
وكلمة نصر بالفعل الماضي يعني نصره الله قبل وجوده في الدنيا ونصره قبل تكليفه بالرسالة ونصره قبل نزول الوحي عليه لأن الله نصره قبل خلق الخلق عندما اختاره رسولاً ونبياً لخير أمة أخرجت للناس واختاره ليُنزل عليه خير كلام أنزله الله للناس ونصره من قبل القبل
بل إنه سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على النبيين والمرسلين أن يؤمنوا به وأن يتبعوه وأن ينصروه وقال في ذلك في قرآنه الكريم {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} هذه واحدة ثم {وَلَتَنْصُرُنَّهُ} وهذه هي الثانية ثم قال عزّ شأنه {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 81:آل عمران
فكان لزاماً على كل نبي أن يبين لأمته أوصاف النبي ورسالة النبي ومكان دعوته وموطن هجرته ويطلب ممن يحضر زمنه منهم أن يسعى إلي نصرته للعهد والميثاق الذي أخذه عليه الله ولذلك فإن الأنصار كان لهم السبق في تلبية دعوة النبي المختار في الهجرة لماذا؟
لأنه سكن معهم في المدينة بضع قبائل من اليهود وما الذي أتى باليهود إلى المدينة؟ كان هؤلاء اليهود يسكنون في بلاد الشام وكان عندهم في التوراة أوصاف النبي ومكان ميلاده ومبدأ دعوته ومكان هجرته ودولته
فعلموا أنه سيهاجر إلي مدينة ذات نخل وهي يثرب فتركوا بلاد الشام مع كثرة خيرها وكثرة مائها وأنهارها وجاءوا إلي المدينة ليسكنوا فيها طمعاً في أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي سيرسله الله في آخر الزمان منهم ولذا عندما سُئل الأنصار عن هذا النبي قالوا: عرفنا أن هذا النبي هو نبي آخر الزمان الذي سمعنا اليهود يذكرونه فأردنا أن نسبقهم إلي إتباعه
فكان هذا من نصرة موسى لنبينا بذكره في التوراة بل أنه ذكره وذكر أصحابه كما قال الله في كتابه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} (29:الفتح)
والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم أنه لا بد أن يهاجر من لحظة نزول الوحي عليه فإنه عندما نزل الوحي لأول مرة في غار حراء وذهب إلي زوجته التقية الوفية السيدة خديجة وحكي لها ما رآه وما سمعه فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ
وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى
فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا [1]
فعلم النبي من هذه اللحظة أنه لابد له من هجرة لمكان يُبلغ فيه رسالات الله ويُؤسِّس فيه مجتمعاً على وفق كتاب الله يشّع منه نور الهداية إلي جميع خلق الله علم ذلك صلوات ربّي وتسليماته عليه وكان صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو موضع القدوة لنا والأسوة لنا والعبرة لنا واثقٌ كل الثقة في مولاه يعتمد كل الاعتماد على الله لا يخشى
ولا يخاف إلا الله ولا يرهب إلا جانب مولاه ويعلم علم اليقين أن ما قرّره له الله لا دافع له من خلق الله وما أراده الله لا بد من تحقيقه بين يدي خلق الله يؤمن إيماناً يقينياً أن الله وحده هو الفعال لما يريد
إذن لماذا خطط النبي بدقة وخرج من بيته واستقر في الغار ثلاثة أيام ثم خرج بعد ذلك من الطريق الذي لم يسلكه الأنام طريقاً منفرداً في الصحراء وجهّز الدليل وجهّز الرواحل التي يركب عليها؟ ليُعلم أمته أن هذا الدين القويم هو دين التخطيط لأي أمرٍ من الأمور
فالمؤمن إذا كان قوي الإيمان بالله يعتمد تمام الاعتماد على مولاه لا بد له من إجادة التخطيط في أي أمرٍ يريد أن يبلغه في هذه الحياة كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه نصر الله ومعه رعاية الله ومعه تثبيت الله ومعه كفالة الله لكن لا بد له من التخطيط الدقيق هكذا يُعلمنا الدرس سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
خطّط للخروج من بيته المبارك وعلم أن الأعداء يحيطون به من جميع الجهات ومائة فارسٍ من صناديد قريش مجهزين بالأسلحة سيدخلون البيت قبل الفجر لينقضوا عليه ويضربوه ضربة واحدة بسيوفهم كما خططوا فجعل ابن عمه على بن أبي طالب ينام في مكانه ويتغطي بغطائه ليوهمهم أنه مازال في موضعه فلا يلتفتوا لخروجه ولا يتابعوه بعد خروجه فيتمكن من تحقيق المراد
ثم خرج من بيته وهو يعلم أنهم يجيدون قصاص الأثر فإذا نظروا إلي قدمٍ وُضعت على الرمل يعلمون منها من هو صاحب هذا القدم ويعلمون منها ملامحه ويعلمون منها قبيلته ويعلمون منها طوله ويعلمون منها أحواله
فخرج من بيته يمشي على أطراف قدميه حتى وصل إلي الغار سبعة كيلو مترات يمشيها النبي على أطراف أصابعه حتى لا يظهر أثر قدميه في الرمال ويعلم القوم أين توجّه وأي مكانٍ سار إليه وخطط أن يبقى في الغار ثلاثة أيام حتى يطمئنوا بعد البحث في كل الطرقات وفي كل الجهات فلا يجدون أثراً لحضرته ويستكينوا ويخرج بعد استكانتهم بعد تثبيت الحر الشديد
كلف من يحضر له الطعام وكلف ابن أبي بكر أن يجلس حول الكعبة يتلمّس له الأخبار ليعلم ما الذي وصلوا إليه من خبره وما الذي يدور في أفكارهم وما الذي استقرت عليه آراءهم وكلف راعي الغنم لأبي بكر أن يمشي في خلف عبد الله بن أبي بكر ذهاباً وإياباً حتى لا يبقى لأرجلهم موضع أثر فلا يعرف الكافرون أين ذهبوا
واتخذوا طريقاً بعيداً غير الطريق العادي الذي يسلكه الناس واتفق مع دليل يمشي به في هذا الطريق مع أنه يمشي بالله ويعتمد على مولاه لكن لا بد له من دليل في هذا الطريق وإن كان هذا الدليل كافراً لا يؤمن بالله خطط النبي هذا التخطيط المحكم حتى تتعلم الأمة
فمن يُرد أن يقيم مشروعاً يخدمه في حياته لابد أن يُخطط تخطيطاً جيدا فكل من يُخطط لأولاده بأن يكونوا ناجحين في الدنيا وأن يكونوا بررةً به وأن يكونوا نافعين لأنفسهم في الدار الآخرة لا بد من التخطيط لذلك وما ضيّع المسلمين في هذا الزمان إلا بالتخطيط الذي تهاونوا فيه وادِّعوا بعد ذلك أنهم يمشون بالبركة وأنهم يعتمدون على الله وأنهم يتوكلون على الله فهم متواكلون وليسوا متوكِّلين لأن المتوكل يقول فيه النبي {اعقلها وتوكّل}[2]
[1] البخاري ومسلم [2] الراوي: أنس بن مالك المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم: 2517 خلاصة حكم المحدث: حسن
منقولة من سلسلة خطب ومقالات لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبو زيد
اضغط هنا لتحميل الخطبة كاملة مجاناً