|
( الخوف من الله )
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد :
تحدثنا في مضى عن عقبة الصغائر والتي ثنيا بها عقيب الكبائر ، ولعلي في هذه الليلة أن أذكر بعض الصور من الأقوال ومن الأفعال التي وردت عن سلف هذه الأمة والتي أوضحت مدى ذلك الخوف من عذاب الله جل وعلا ، فإذا طالعنا سير هؤلاء العظماء الأجلاء الصالحين الأبرار وجدنا فيها من العجائب والغرائب ما يذهل العقل عن تصوره ، بل إن البعض من الناس إذا ذكرت له سيرة من سير السلف الصالح أو قصة ثابتة عن هؤلاء الأطهار الأبرار ، إذا به يتصور أن هذا الأمر نوع من الخيال وليس هذا بصحيح بل هو والله حق وحقيقة وصدق لكن نفوسنا أعيتنا وأعجزتنا حتى تأخرنا عن هذا المقام ، ولا أدل من قول ابن مسعود رضي الله عنه رضي الله عنه لما قال له رجل يا أبا عبد الرحمن إني لا أستطيع أن أقوم الليل ، فقيام الليل علي شاق ، لا أستطيع أن أؤدي هذه النافلة وهذه العبادة ، فقال رضي الله عنه ( نعم ، قد أقعدتكم وقيدتكم ذنوبكم )
الحسن البصري رحمه الله كان كثير البكاء ، قيل له نراك كثير البكاء ، فقال رحمه الله – انظروا إلى وجَلِه وإلى خوفه من الله جل وعلا ، بخلاف ما عليه البعض من الناس ، فهو يعصي الله جل وعلا ، يخطئ ، يزل ، يذنب ، وكأن الأمر شيء طبيعي ، كأنه يعصي مخلوقا من المخلوقين ، قيل له نراك كثير البكاء ، فقال رحمه الله ( أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي )
وقد ذكرت لكم ما وصفه به أحد طلابه في دروس سابقة إذ قال ( كان الحسن البصري رحمه الله إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حبيب ) إذا أقبل الإنسان من دفن جنازة وليست هذه الجنازة قريبة منه ، ماذا يظهر عليه من الخشوع ومن الخضوع ومن التأثر ؟ يظهر عليه شيء عظيم ، فكيف إذا كان هذا الدفين أحد أقربائه ( كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حبيب ، وإذا جلس فكأنما أُمر بضرب عنقه ، خائفا وَجِلا ، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له ، ثم نخرج من عنده لا نعد ولا نعتبر الدنيا شيئا .
ولهذا قال ( ما أمن الله إلا منافق وما خافه إلا مؤمن )
قال بعض السلف ، وأنا أذكر هذه الصور وهذه الأقوال النيرة الطيبة حتى تدخل في قلوبنا لعلها أن تتعظ ، لعلها تستيقظ من غفلتها ، قال أحد السلف ( من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم ، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا ) النبي صلى الله عليه وسلم قال في حد السرقة ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ) الربع دينار يعتبر ثلاثة دراهم ، لأن الدينار في ذلك الوقت عبارة عن اثني عشر درهما ، وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قطع يد رجل سرق مِجنَّا قيمته ثلاثة دراهم ) فقال هذا العالم الجليل قال ( من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم ، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا )
وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله ( احذره ولا تغتر به ، فقد عذَّب امرأة في هرة حبستها ، واشتعلت الشملة على الشهيد نارا لما غلَّها )
ولهذا قال بعض السلف ( رُبَّ مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم وربَّ مفتون بستر الله وهو لا يعلم ، وربَّ مغرور بثناء الناس عليه وهو لا يعلم )
يقول إبراهيم التيمي رحمه الله وهو من التابعين يقول ( ما عرضت عملي على قولي إلا خشيت أن أكون كاذبا )
فما ظنكم بأحوالنا ؟ ما ظنكم بسيرتنا ؟
يقول ابن أبي مليكة رحمه الله كما في صحيح البخاري يقول ( أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كل منهم يخشى النفاق على نفسه ، ما يقول أحد منهم إني على إيمان جبريل أو ميكائيل ) هؤلاء الصحابة الأجلاء الذي أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه ، هذه هي حالتهم وهذه هي سيرتهم ، كل منهم يخشى على نفسه من النفاق (ما يقول أحد منهم إني على إيمان جبريل أو ميكائيل ) .
أبو بكر الصديق رضي الله عنه – لعلي أذكر نبذة مختصرة عن شيء من سيرته رضي الله عنه ، أبو بكر رضي الله عنه كان كثير البكاء ، لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته الذي توفي بعده ، أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فماذا قالت عائشة رضي الله عنها ؟ ( قالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ) يعني كثير البكاء ( إذا صلى بالناس لا يسمع الناس قراءته من كثرة البكاء )
فماذا كان يقول ؟ كان يخرج لسانه ويقول هذا هو الذي أوردني المهالك ، من هو المتحدث ؟ أبو بكر رضي الله عنه ، يقول عن لسانه ( هذا الذي أوردني المهالك ) وهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يدخل الجنة من جميع أبوابها الثمانية ، المشهود له في الدنيا ، نطق بذلك اللسان المطهر ، لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له في الدنيا بأنه من أهل الجنة ، وهذا هو كلامه .
أتي له في ذات يوم من الأيام بطير قد صيد ،فماذا قال ؟ ما صيد طائر إلا بما ضيع من التسبيح ، قال تعالى وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء44 ، فهذا الطير ما صيد إلا بتضييعه لتسبيح وتنزيه الله جل وعلا .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسيرته من العجائب ، يقول أنس رضي الله عنه تبعته ذات يوم حتى حال بيني وبينه حائط ، وهو لا يعلم بمكاني ، وإذا به وأنا أسمعه من وراء الحائط يحدث نفسه يقول " أمير المؤمنين ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك " سبحان الله العظيم ! يجلس مع نفسه يحاسبها ، يناقشها " لتتقين الله أو ليعذبنك "
ذكر الكاندهلوي في حياة الصحابة أن عمر رضي بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير ذات ليلة في طرق المدينة يتعسس الرعية وينظر في أحوالهم ،فمر في طريقه ببيت فإذا بقارئ يقرأ { وَالطُّورِ{1} وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ{2} فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ{3} وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ{4} وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ{5} وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ{6} إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ{7} مَا لَهُ مِن دَافِعٍ{8}
فلما سمع هذه الآية نزلت عليه كالصاعقة فارتجف رضي الله عنه ثم جلس في بيته مريضا من سماعه هذه الآية يعوده الناس يظنون أن به مرضا وليس به مرض وإنما به الخشية من الله جل وعلا ، هذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، حتى قيل من كثرة بكائه كان في خديه خطان أسودان من كثرة البكاء ، هذه هي أحوال صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذه هي سير السلف الصالح ، وكيف لا تكون هذه سيرهم وأحوالهم والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثير البكاء ، دخل عليه عبد الله بن الشخير ذات يوم وهو يصلي وإذا ( لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء )
تقول عائشة رضي الله عنها ( يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فلماذا هذا القيام ؟ ) تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام من طول القيام ، فتقول له عائشة لم يا رسول الله ؟ فقول يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ؟
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذاً الذنوب من الخطورة بمكان ، فالواجب علينا أن نحذر من الذنوب كلها كبيرها وصغيرها .
قد يقول قائل : هذه الذنوب مرت بنا أربع عقبات ( الشرك ) ولا شك أنه أعظم الذنوب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لما سئل أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) وذكرنا البدعة والكبائر والصغائر ، بقي ثلاث عقبات لا علاقة لها بالذنوب ، لكن هذه الأربع كيف يدخل الشيطان على ابن آدم فيوقعه في هذه الذنوب الأربعة ؟
يدخل عليه الشيطان من أربعة أبواب ( من النظرة ، من اللفظة ، من الخطرة ، من الخطوة ) يعني ( من العين ، من اللسان ، من الهوى ، من القدم ) هذه أربعة أبواب متى ما سدها ابن آدم سد خزي الشيطان في نحره ، ولهذا قال بعض السلف إذا وجدت فيك هذه الأمور الأربعة وهي ( النظرة واللفظة والخطرة والخطوة ) فاحث على رأسك الرماد فقد شقيت وخسرت وهلكت .
وقد ذكرها الله عز وجل في كتابه في موضعين ، فجمع الله جل وعلا بين اللفظة وبين الخطوة في قوله جل وعلا {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } هذه خطوة .
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً } هذه اللفظة
بقيت النظرة والخطرة التي هي في القلب ، قال تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }غافر19 ، هذه أربعة أبواب متى ما أغلقت هذه الأبواب أحرزت دينك وحفظته ، هذه الأربع لعلنا أن نتحدث عن بعضها في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى ، ولعلنا أن نبتدئ بالنظرة التي يكون مصدرها العين ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
جزاك الله خير
سبحان الله وبحمده … سبحان الله العظيم