التـقـوى وأنها البـداية الصحيحـة في الطلـب
أولاً : التـقـوى وأنها البـداية الصحيحـة في الطلـب : لقوله تعالى : {. . . وَََاتَّقُواْ اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1) .
فقد اشتملت الآية على أمر ووعد ؛ أمر بالتقوى ، ووعد بالعلم الذي هو معقد كل عز ، ومجمع كل فضيلة.
ويعلمكم اللَّه : أي : كل خير يحبه ، ويرضاه.
فلكي تبدأ البداية الصحيحة ، ويقال لك فـي الملإ الأعلى : يا باغي الخير أقبل(!) وتضع لك الملائكة أجنحتها ، رضاً بما تصنع ، ويستقيم لك الطريق ؛ فلا ترى فيه عوجاً ، ولا أمتاً ، وتُكفى العثار وتكفى أن ترهق صعوداً ؛ فلا عقبات ، ولا عثرات ؛ عليك أن تلبس نعال التقوى ؛ فهي على صعاب الطريق أقوى(!) ومادتها اجتناب المحارم(!) وإياك ونعال المعاصي . . فلا يقال لك : اخلع نعليك(!) أو ارجع على عقبيك(!) أو ليس هذا بعشك فادرجي . . (!) فليس في هذا الطريق مع غياب التقوى ، ووجود المعاصي محابة ، فانظر نعليك ، قبل أن تُرَدَّ على عقبيك ، وتُذَادَ عن حياض العلم ذوداً كغرائب الإبل.
فلن يستقيم لك السير في طريق العلم كما تريد ما لم تستقم على مراد الله ، فلا للذنوب والمعاصي والآثام ؛ فإذا زلت بك القدم ، وألممت بذنب ؛ فقم واستغفر ؛ وإياك أن تقيم عليه صريعاً ، ولا تجعلها الزلة التي تودي بك .
* التقوى تحفظ القلوب من مفسداتها :
والتقوى حافظة للقلوب من مفسداتها ، ومما يكدر صفوها ، ويذهب طراوتها ، وكفى بها أنها تعصم صاحبها الذنوب ؛ فإن الذنوب تميت القلوب ، وحياة القلوب ترك الذنوب ؛ كما قال ابن المبارك عليه رحمة اللَّه :
رأيت الـذنوب ؛ تميت القلـوب
وقـد يورث الـذل إدمانها
وترك الـذنوب ؛ حياة القلـوب
وخـير لنفسـك ؛ عصيانها
فقلب رانت عليه الذنوب بما كسب صاحبه ، وأحاطته الشهوات ، وجاءه موجها من كل مكان ؛ فغمرته ، وعن ربه حجبته ؛ أنى له العلم(؟!).
* إشارة لطيفة لأبي حامد الغزالي لمن أراد المعرفة من كتابه : (( الإحياء )) :
قال أبو حامد رحمه اللَّه تعالى : (( أنوار العلوم لم تحجب من القلوب لبخل ، ومنع من جهة المنعم تعالى عن ذلك ، بل لخبث وكدورة ، وشغل من جهة القلوب ؛ فإنها كالأواني مادامت مملؤة بالماء لا يدخلها الهواء ، والقلب المشغول بغير اللَّه لا تدخله المعرفة بجلاله )).
قلت ( أبو عبيد العمروني) : وهذا كلام نفيس ينبغي لطالب العلم أن يهتم له ؛ فإنه يربو على الغاية في الإرشاد والتذكير ، لمن أراد مواصلة المسير.
* إشارة لطيفة لابن القيم لمن أراد صفاء قلبه من كتابه : (( الفوائد )) :
قال الإمام الرِّبِّيُّ ابن قيّم الجوزية قدس اللَّه روحه : (( فمن أراد صفاء قلبه فليؤثر اللَّه على شهوته ، فإن القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن اللَّه بقدر تعلقها بتلك الشهوات )).
* إشارة أخرى للمؤلف فـي أن العمى عمى البصيرة :
قلت ( أبو عبيد العمروني) : فالعلم لشرفه ، ورفعته لا يدخل إلا القلوب الصافية الرقيقة ، فاحرص على صفاء قلبك ورقته ؛ يمتلىء بالحكمة والفقه فـي الدين إن كنت فـي ذلك من الراغبين.
وليكن لك قلب تعقل به ، وأذن تسمع بها ، ولا عليك إن لم يكن لك عين تبصر بها ؛ { . . . فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }(2).
قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(3).
فأين العين ههنا(؟) لا محل لـها(!) إذاً اقطع علائق قلبك بالشهوات يبصر ، ويرى.
وقد أحسن القائل :
القلـب يدرك مـا لا عـين تدركـه
والحـسن ما استحسنته النفـس لا البصـر
ومـا العـين التي تعمـى إذا نظـرت
بل القلـوب الـتي يعمـى بها البصـر
* من آثار المعاصي حرمان العلم :
قال ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى : (( وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب ، والبدن فـي الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا اللَّه.
فمنها : حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه اللَّه في القلب ، والمعصية تطفىء ذلك النور.
ولما جلس الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته ، وتوقد ذكائه ، وكمال فهمه ، فقال : إني أرى اللَّه قد ألقى على قلبك نوراً ؛ فلا تطفئه بظلمة المعصية )) (4).
وقال أبو عبداللَّه محمد بن إدريس قدس اللَّه روحه :
شكـوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشـدني إلى ترك المعاصـي
وأخـبرني بأن العلـم نـور
ونور اللَّـه لا يهـدى لعاصـي
* نور اللَّه والمعصية لا يجتمعان فـي قلب واحد :
إذاً نور اللَّه ، والمعصية لا يجتمعان في قلب امرئ أبداً ، فحيث كان في القلب أحدهما فلا مكان للآخر.
فإذا شكوت سوء حفظ ، أو عدم فهم ؛ فلعمر إلـهك إنها الذنوب ، فكم قطعت بطالب علم ، وأثقلته وأقعدته(؟!) وكم أوقرت من أذن ، وجعلت على بصر غشاوة(؟).
فالزم حماك اللَّه حمى التقوى ؛ تكن فـي طلب العلم أقوى.
(( سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك(؟) قال : نعم ، قال :كيف صنعت(؟) قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه ، أو جاوزته ، أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى.
وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :
خـل الـذنوب صغـيرها
وكـبيرها فهـو التقـى
واصـنع كمـاش فـوق أر
ض الشـوك يحـذر مـا يرى
لا تحقـرن صغـيرة
إن الجـبال مـن الحصـى
قال ابن رجب رحمه اللَّه : وأصل التقوى : أن يعلم العبد ما يتقي ثم يتقي ، قال عون ابن عبد اللَّه : تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم يعلم منها إلى ما علم منها )) (5).
قال الشاعر :
وبالتقـى تغـنم الإصـلاح في عمـل
وتستفـيد بـه علـماً بلا سهـر
ونفـع ذلك لا يحصـى لـه عـدد
ونص ذلك فـي آي الكـتاب قُـري
يتبع إن شاء الله
ــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة الآية : (282).
(2) سورة الحج الآية : ( 46 ).
قال بشار بن برد الشُعبي
عميت جنيناً والـذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن ، للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافداً
لقلب إذا ما ضيع الناس حصَّلا
قلت : مما من شكٍّ أن بشار بن برد ـ أعمى البصيرة ـ مخطىء في نسبة الذكاء إلى العمى فليس الذكاء كما يقول من العمى ، فقد عمي جنيناً وأعمى الله بصيرته كبيراً فجمع الله له بين الاثنين عياذاً بالله رب العالمين فقد كان شعوبياً إبليسيّاً يؤثر عبادة النار على الواحد القهار ويفضل إبليس على آدم عليه السلام ، وقد نص الله في كتابه أنه لا يلزم من عمى العين عمي البصيرة وقد يجتمعان كما هو حال بشار وحينئذ ليس لمن هذا حاله عند الله إلا النار عياذاً به تعالى.
(3) سورة ق الآية : (37 ).
(4) ابن قيم الجوزية ( الداء و الدواء )( فصل آثار المعاصي ).
(5) ابن رجب الحنبلي ( جامع العلوم والحكم )( 1/ 402 ) تحقيق شعيب الأرناؤوط ، و إبراهيم باجس.
ضبح العاديات -وكتب أبو عبيد العمروني
وعلى الله قسد السبيل