الحكمة في تسليط أعدائه على أوليائه
قوله وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب فكم لله في ذلك من حكم باهرة منها حصول محبوبة من عبودية الصبر والجهاد وتحمل الأذى فيه والرضى عنه في السراء والضراء والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى أعدائه لهم وتميز الصادق من الكاذب ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب ولا شيء أبر عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة عدوه فكم لله في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله قد خلت من قبلكم سنن إلى قوله إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين إلى قوله ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحكم وكظم الغيظ ولا حلاوة النصر والظفر والقهر فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها ولولا ذلك التسليط لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه فاستحقوا كرامتهم عليه وما عند أعدائه فاستحقوا عقوبتهم عليه فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين وهو العزيز الحكيم الوجه الثامن والثلاثون قوله وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق فاعلم أنه لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثا وسدى والله يتعالى عن ذلك وقد نزه نفسه عنه كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وقال أيحسب الإنسان أن يترك سدى قال الشافي لا يؤمر ولا ينهى ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة فإنه خلق لغاية كماله وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقال لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وقال ذلك ليعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر وهما أعظم كمال الإنسان والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة ومكنه منها ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان وهي ترجع إلى شكر المنعم كلها دقيقها وجليلها منه وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامل به فتذكر آلاؤه وتشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى هذا مع تضمن التكليف لأيصاف العبد بكل خلق جميل واثباته بكل فعل جميل وقول سديد واجتنابه لك لخلق سيئ وترك كل فعل قبيح وقول زور فتكليفه متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وصدق القول والإحسان إلى الخليقة وتكميل نفسه بأنواع الكمالات وهجر أضداد ذلك والتنزه عنها مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم ومجاورة ربه في دار البقاء فأي الأمرين أليق بالحكمة هذا أو إرساله هملا كالخيل والبغال والحمير يأكل ويشرب وينكح كالبهائم ايقتضي كماله المقدس ذلك فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب وترك إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام وهل عرف الله من جوز عليه خلاف ذلك وهل ذلك الأمن سوء الظن به قال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ فحسن التكليف في العقول كحسن الإحسان والإنعام والتفضل والطول بل هو من أبلغ أنواع الإحسان والإنعام ولهذا سمى سبحانه ذلك نعمة ومنة وفضلا ورحمة وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا فنعمة الله هاهنا نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه به من الهدى ودين الحق وقال لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم و قال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وقال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وقال واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وقال وأعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وقال لرسوله وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه وثمرته في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة وهل في العقول السليمة والفطرة المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه وصفاته
شفاء العليل ج: 1 ص: 266
طريق تحصيل الصبر عند البلاء
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث:شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدّرة في أمّ الكتاب قبل أن تُخلق فلا بدّ منها،فجزعُه لايزيده إلا بلآءًِ.
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهودا هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك في وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة. قال علي بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له اختيارها وقسمها وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى لحق.
السابع: أن يعلم أن هذه المصبية هي داء نافع ساقه إليه الطيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلا.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه. فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال تعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " وقال الله تعالى: "فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا". وفي مثل هذا القائل:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ فإن اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وألبسه ملابس الفضل وجعل أولياءه وحزبه خدما له عونا له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأقصي وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصبية في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصبية في حقه صارت نعما عديدة. وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة. والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخرة بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية. فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه. فإما أن يخرج تبرا أحمر، وإما أن يخرج زغلا محضا، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبا خالصا فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك. وكيف لا يشكر من قبض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبرا خالصا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.
ابن القيم :طريق الهجرتين الجزء :1 الصفحة :415
المصائب والبلايا نقمة ونعمة وذلك بحسب التلقي لها من العبد
(قاعدة) إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجل عوض وأفضله. وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائيا عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضا. وكانت البلية في هذا عين النعمة، وإن ساءته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" وإن لم يرده ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادته الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى الحكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبليه الأول تطهير له ورحمة وتكميل والله ولي التوفيق.
إبن القيم : طريق الهجرتين ج1
للشيخ خالد الحبشي للرقية الشرعية